المادة    
ثم يقول المصنف رحمه الله: [التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء] كما في قوله تعالى: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ))[الملك:17].
إن القرآن قد جاء بأبلغ وأرقى الأساليب العربية البينة؛ كما في هذه الآية: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:17]؛ فإن الدلالة فيها أبلغ وقعاً في القلوب مما لو قيل: (أم أمنتم الله) وأهل السنة؛ كالصحابة والتابعين، حين تعرضوا لتفسير هذه الآية، لم يخوضوا في تفسير: "من في السماء" ولم يبحثوا عنه، لأنه أمر بديهي لا يحتاج أن يفسر، فهو من أنواع التفسير الذي قال فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [وتفسير تعرفه العرب من كلامها] ولهذا تجد المفسر من أهل السنة؛ كـابن جرير الطبري رحمه الله؛ يذكر الآثار الواردة عن السلف في تفسير الآيات التي تحتمل معنيين أو أكثر، لكنه حين جاء إلى تفسير هذه الآية قال: "وهو الله" واكتفى، فهو أمر لا يحتاج إلى دليل ولا إلى أثر، لأنه واضح ومفهوم، ولا يتصور معنىً آخر غيره.
  1. تأويل الفخر الرازي لقوله تعالى: ((أأمنتم من في السماء)) والرد عليه

    أما أهل البدع فأخذوا في التأويل، وخاضوا فيه، وممن خاضوا في التأويل: الفخر الرازي، حيث يعد من أشهر المؤولين، وتفسيره أيضاً كبير وواسع، وهو مطبوع يرجع إليه المؤولون ويحتجون به، فحين جاء إلى تفسير هذه الآية: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ))[الملك:17] قال: "هذه الآية كقوله: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ))[الأنعام:65]" فهو يريد أن يقول: إن هذه الآية ليست من آيات الصفات؛ إنما المقصود بها إثبات أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعذبهم.
    ويقول: "إنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين".
    ثم قال: "لأنا إذا قلنا: في السماء، فالسماء جزء من مخلوقاته، وفوقها العرش وأكبر منها، فإذا كان فيها، فيلزم أن يحيط به بعض مخلوقاته وأن بعضها أكبر منه" فيقال له: من قال لك: إن هذا هو ظاهر الآية؟! ومن قال لك: إن المعنى الذي يفهمه المسلمون من الآية أن الله محصور في هذه القطعة والرقعة التي تسمى السماء؟!
    إن هذا الفهم لم يفهمه أحد من سلف الأمة ولا من علمائها، حتى جاء هؤلاء القوم وفهموا هذا الفهم.
    ومن أسباب سوء الفهم في كتاب الله سبحانه وتعالى: العجمة؛ يأخذ أحدهم القاموس الصغير الذي فيه الكلمة ومعناها، فيجد فيه أن السماء هي التي صفتها كذا وكذا -السماء المعروفة- ثم يقرأ القرآن، فما وجد فيه من لفظ "السماء" فإنه يتصور أنها هي الجرم المعروف على ما فهم من اللغة، فتأتي آيات فيقول: والله لا يمكن أن نجريها على ظاهرها، فلو قرأ هذه الآية وهو لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم من كتاب الله إلا هذا المعنى فقط، لقال: هذا لا يمكن.
    وقس على ذلك كثيراً من صفات الله سبحانه وتعالى ومن معاني القرآن، حتى في الأحكام الشرعية.
    فسوء فهمهم للقرآن جاء من أحد أمرين:
    الأول: أنهم لا يدركون من المعاني، إلا هذا؛ بمعنى أنهم يجهلون تفسير القرآن؛ ويجهلون تفاسير السلف، لا يستطيعون أن يتوسعوا في لغة العرب.
    الثاني: بسبب مسألة المجاز، وقولهم: إن الأصل في وضع كلمة السماء هي الجرم المشهود المعروف، وما عدا ذلك فهو مجاز، مع أنه لا أحد يستطيع أن يثبت أن العرب أرادت بالسماء هذه، أو أرادت باليد: الجارحة، أو أرادت بالعين: الجارحة أو الذهب؛ فإن المعاني مشتركة في لغة العرب؛ فمثلاً: إذا قلنا: (عين) مفردة، فإنها تحتمل أشياء كثيرة، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن العرب وضعت هذه الكلمة لمعنى كذا بعينه، بل هي لمعاني كثيرة، ولا يستطيع أحد أن يجزم بواحد منها؛ فهي تطلق على العين الباصرة، وعلى الماء الذي يخرج من الأرض ويجري، وعلى الذهب، ولا بد من فهم السياق حتى يتبين المعنى، فمثلاً إذا قلت: رأيته بعيني، فُهِمَ المعنى؛ أي: ما رأيته بذهبي، ولا رأيته بالماء الذي يجري، بل رأيته بعيني الباصرة، فإذا قال بعضهم: نسمي هذا حقيقة وذلك مجازاً؛ قلنا: بل نسميه اشتراكاً.
    وأيضاً من الذي قال: إن العرب وضعت هذا هكذا؟! ومن قال: إن اللغة هي وضع واضع؟!
    فالفهم السيئ لكتاب الله هو الذي أدى بهم إلى ذلك.
    ففي قوله تعالى: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:17]، من قال: إن إثبات معنى (من في السماء) يستلزم أنه محصور في هذا الجزء من خلقه؟! فليس هذا من لوازم المعنى، ومن قال ذلك فإنه لم يفهم المعنى، وإذا لم يفهم معاني القرآن، فليرجع إلى ما قاله السلف، وليسألهم: بم تفسرون هذه الآية؟ وما معناها؟ فإذا وضحوا له ذلك، قبله منهم وانتهى الأمر.
    فكل عربي نزلت عليه هذه الآية أو قرأها في القرون الثلاثة الأولى، لم يفهم منها ما فهمه هؤلاء المتكلمون، ولم يقل ذلك أحد حتى ظهر علم الكلام والبدع والتأويلات التي ليست من لغة العرب، فضلاً عن أن تكون من دين الإسلام.
    ثم يقول الرازي : "لابد أن تؤول الآية على أحد وجوه أربعة" والذي يدلنا على أنها باطلة هي كثرتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل الآية وفهمها الصحابة والتابعون على معنى معين واضح لا يحتمل غيره؛ فقوله: يحتمل فيها هذه الوجوه الأربعة؛ على تنافرها؛ مخرج من المأزق فقط، فليست هذه الأوجه مما يدل عليه النص.
    وقوله: (تحتملها جميعاً) بغير ترجيح أحدها؛ ما هو إلا مجرد مخرج ليخرج الآية عن معناها الصحيح، حتى لا يثبت ما يدل عليه النص، وهو علو الله.
    ثم قال: "الوجه الأول: أن يقال: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، أي: الذي عذابه في السماء" مع أنه قال في أول كلامه: إن هذه الآية هي مثل قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ))[الأنعام:65]؛ فهل عذابه في السماء فقط؟! وهل جاء في كلام الله عز وجل أن عذابه في السماء فقط؟!
    إن الآية التي في سورة الأنعام تدل على أن العذاب يمكن أن يأتي من السماء أو من تحت الأرجل، وهذا الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه استعاذ بالله تعالى من العذاب الذي يأتي من السماء، ومن الذي يأتي من تحت الأرجل، فأجابه ربه.
    وممن عذب بعذاب من أسفل وليس من السماء قارون، قال تعالى: ((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ))[القصص:81] فهذا العذاب جاءه من تحت قدمه، والرجل الذي مشى يتبختر في حلته فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى قيام الساعة، نسأل الله العفو والعافية.
    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنواع العذاب في قوله تعالى: ((فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))[العنكبوت:40] فالعذاب أنواع: فبعض الناس يأتيه العذاب من فوق، وبعض الناس يأتيه العذاب من أسفل.
    والآيات والأحاديث وواقع الأمم الواضح يدل على أن عذاب الله قد يأتي من أعلى وقد يأتي من أسفل، فكما أنه يأتي من السماء، فكذلك يأتي من الأرض؛ بل إن عذاب قوم نوح جاءهم من الجهتين، فالسماء جاءت بماءٍ منهمر، والأرض فُجِّرت عيوناً: ((فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ))[القمر:12] فيمكن أن يأتي العذاب من هنا ومن هنا، فقوله: (أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من في السماء عذابه؛ هو لغو، لا يصح أن يفسر به كلام الله سبحانه وتعالى.
    ثم يقول: "الثاني أن يقال: إن هذا الكلام وهو قوله: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:16]، قصد به أن الله تعالى -يعني ذاته سبحانه وتعالى- في السماء، فيكون جرياً على قول العرب في الجاهلية" ونقل ذلك عن أبي مسلم الأصفهاني، وهو من علماء الكلام؛ وله آراء غريبة، منها: أنه يقول بالبداء على الله تعالى، وهو قول اليهود والرافضة.
    فالمقصود أن أبا مسلم هذا تقعر وتفلسف، وقال: يمكن أن تجرى الآية على ظاهرها، جرياً على عادة العرب في الجاهلية، فـالمشبهة -يعني بذلك أهل السنة - والعرب في الجاهلية من عقائدهم الباطلة في الله اعتقادهم أن الله في السماء، فيخاطبهم الله على قدر عقولهم يقول: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ))[الملك:16]".
    ومقتضى هذا أن الله تعالى يصحح كلامهم وهو باطل، فمن كانوا يعتقدون أن لله بنات -تعالى الله عن ذلك- فهل يمكن أن يخاطبهم الله ويقول لهم: (أأمنتم من له البنات أن يخسف بكم الأرض)؟! فهل يصح هذا الكلام، والله سبحانه وتعالى نفى ذلك؟! وهل يمكن أن يقول الله للنصارى: (أأمنتم من له ابن وله صاحبة أن يخسف بكم الأرض)؟! فإذا كان ذلك جرياً على عقائدهم، فهو تصحيح لعقائدهم، وهذا لا يمكن، بل هو من أبطل الباطل؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يقر أحداً من الناس على اعتقاد غير الحق، فالمعنى الذي ذهب إليه أبو مسلم باطل، وهو من أبطل الوجوه وأفسدها، وإن قال به من قال.
    يقول: "الوجه الثالث: أن يقال: معنى الآية: أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه" والرد عليه واضح كما رددناه في الأول، نقول: من الذي قال لك: إن ملك الله تعالى وسلطان الله تعالى في السماء فقط، أليست الأرض أيضاً ملكه كما في الآيات: ((وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))[النحل:52]، وهو سبحانه له الحمد وله الملك، فهو مالك كل شيء سبحانه وتعالى، قال تعالى: (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))[هود:56]، فضلاً عن الجماد، فكل شيء في ملك الله سبحانه وتعالى، وهذا من البديهيات التي يعلمها كل مسلم، ولا يخفى على أحد قرأ كتاب الله سبحانه وتعالى أن الملك كله لله عز وجل، ففي السماء ملكه وسلطانه، وفي الأرض ملكه وسلطانه، فلماذا الاختصاص بالسماء؟! ولو أراد ذكر الملك والسطلان، لقال أأمنتم ذو الملك والسلطان، ليشمل كل ما في الأرض والسماء، لكن المقصود ليس التعبير عن الملك ولا عن مكان الملك، وإنما المقصود التعبير عنه سبحانه وتعالى وعن ذاته عز وجل، فالتخويف به سبحانه وتعالى، وإنما لم يكن اللفظ مباشراً كما أشرنا؛ لأن قمة البلاغة لا تكون في الكلام إذا جاء باللفظ المباشر، وإنما تكون إذا جاء اللفظ غير مباشر؛ فهنا جاءت الصفة (من في السماء) وأريد بها الموصوف (الله سبحانه وتعالى)؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {وأنا أمين من في السماء}^ فهذا أبلغ وأدل على المعنى المراد.
    يقول: "الوجه الرابع: أن يكون المراد بـ(مَنْ) من قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ): الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل"، يعني أن الله يخوف عباده الذين في الأرض، فيقول لهم: أأمنتم جبريل الذي في السماء الموكل بالعذاب أن يخسف بكم الأرض، فإذا هي تمور؟! فيكون تهديده لهم بعذاب جبريل، لكن بأمره تعالى وبتدبيره.
    فيرد عليه ويقال: في مقام التهديد لا يهدد أحد فيقال له: ألا تخاف من الجنود؟! لكن يقال له: ألا تخاف من الملك؟! لأن الملك هو الذي يأمر الجنود كلها، فلا تخوفه بجندي من جنوده، ولكن خوفه بمن يملك الجنود كلهم، فهذا هو المقام المناسب، وهكذا أسلوب العرب في كلامها، وإلا كان الكلام لا قيمة له ولا معنى، إلا إذا كان الجُرْم صغيراً، ويمكن أن يقوم بعقاب فاعله من هو دون الملك؛ لكن إذا كان الجرم كبيراً وعظيماً كالشرك بالله سبحانه وتعالى، كان العذاب عظيماً جداً، وهو أن (يخسف بكم الأرض) فيخسف الله بالعالم السفلي؛ (فإذا هي تمور) تضطرب؛ فالتهديد بهذه القوة لا يضاف إلى جند من جنود الله، وإنما يضاف إلى الله؛ وقد قال تعالى في هذا المعنى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ))[الفجر:25-26].
    فمعنى قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: أأمنتم الله سبحانه وتعالى.
    ولو سلمنا -جدلاً- أن المراد به جبريل عليه السلام، كان ذلك دليلاً على العلو من جهة أخرى، أخبرنا سبحانه وتعالى أن الملائكة عنده؛ قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] وجبريل عليه السلام هو كبيرهم وأشرفهم، فهو عند الله سبحانه وتعالى؛ فـالرازي يثبت أن الملائكة الذين هم عند الله هم في السماء، ويقول: إن الله ليس في السماء؛ وهذا تناقض صارخ.
    وهذه الأوجه التي يذكرها هؤلاء إنما هي مخارج؛ لئلا يقروا بالحق ولا يثبتوا لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، كما لا يحتمل اللفظ غيره.
  2. تفسير أهل السنة لقوله تعالى: ((أأمنتم من في السماء))

    قال المصنف رحمه الله: [التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن يكون (في) بمعنى (على)] فإذا كانت (في) بمعنى (على)، فكيف إذا جاءت (على) بنفسها؟! فعلى ذلك قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: على السماء، وهذا المعنى ليس بغريب ولا جديد أو لم يرد في لغة العرب، بل هم يعرفونه، وهو أيضاً واضح من كلام الناس، فإذا قال أحد: الناس في الأرض، فليس معنى (في الأرض) أنهم داخل الأرض، أي في جوفها وفي بطنها، فإذا قال: الذهب والبترول في الأرض، فُهِم منه أنها في الباطن؛ لكن إذا قال: الناس في الأرض، فُهِم من ذلك أنهم فوقها، قال تعالى: (( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ))[الأعراف:10] أي أن الله سبحانه وتعالى مكننا من الحياة في الأرض؛ أي: على الأرض، وجعل لنا فيها معايش؛ أي على ظهرها، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك أيضاً، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ))[طه:71] فهو لا يعني أنه يصلبهم في داخلها، إنما يصلبهم: (عليها)، وكأن: (في) هي في الحقيقة (على) فتكون أولى وأبلغ.
    فنقول تقريراً لذلك: (في) تأتي في كلام العرب بمعنى (على)، وعليه من الأدلة والشواهد مالا يحصى.
    فإذا كانت (في) بمعنى (على) فلا إشكال، فمعنى قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أأمنتم من هو على السماء عليها.
    والمعنى الآخر أن تكون السماء بمعنى العلو: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أي في العلو، والسماء بلغة العرب تطلق على الجرم المشهود، فهي هنا اسم جنس، وعلى العلو مطلقاً، فسماء كل شيء علوه، فإذا نظرنا إلى المراوح نقول: المراوح في سماء البيت، أي في أعلاه، وهذا معروف أيضاً في لغة العرب؛ كما قال ابن الأعرابي: [[كل ما علاك فهو سماء]]، فكل ما كان فوقك فهو سماء، فالبيت سقفه سماء، وأعلى الخيمة سماء كما كانت العرب تقول ذلك، وإذا رأى العرب شيئاً في الفضاء قالوا: هذا في السماء؛ كما في قوله تعالى: (( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ))[النحل:79] أي: في العلو، ويطلق أيضاً على السحاب سماء، كما قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا))[الفرقان:48] أي: من السحاب، حتى أن العرب يقولون: رعينا السماء؛ أي: رعينا العشب الناتج عن المطر.
    وهذا يدل على أن العرب تستعمل كلمة السماء في معاني عدة، ومن ظن أن السماء هي هذا الجرم المشهود المحدود فقط، فهو عجمي لا يعرف من لغة العرب إلا ما قرأ في القاموس.
    والخلاصة أن قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] على أحد معنيين؛ إما بمعنى (أأمنتم من على السماء)، أو (أأمنتم من في العلو)، وعلى يكون المراد هو الله سبحانه وتعالى.
    يقول رحمه الله: "لا يختلفون في ذلك" ولهذا لا يذكر أحد من المفسرين أثراً في هذا ولا خلافاً، ولا يمكن أن يختلف المفسرون في ذلك: "ولا يجوز الحمل على غيره" فلا تحمل الآية على غير هذين المعنيين.